الكثير قد تكلّموا في الجائحة.. وعن الدروس التي تعلّموها منها.. سمعنا وقرأنا تلك العبارة التي تقول “سيزول كورونا.. لكن هل سنتعلّم الدرس؟”.. وكلّه كلام جيّد وفي محلّه وليس لديّ ما أزيده عمّا قيل.. لكنّ المشاعر تأبى إلا أن تشارك ما يختلج أيضاً..
تناول البعض هذه الأزمة من منظورها الديني.. فمنهم من قال هذا عقاب الرّب على هذه الخليقة فقد تمادت في غيّها وظلمها للضعفاء.. هذا غضب الرّب على هؤلاء البشر الذي أضرّوا بجيرانهم من الخلق الذين يعيشون معهم على ظهر الكوكب.. ومنهم من أخذ منحنى آخر فقال أنّ هذا ابتلاء من الله لكي يرى من يصمد ومن يأخذ العبرة.. ثم جاء آخرون ليدحضوا هذه النظريّات ويزيحوا الجائحة من منظورها الديني مدّعين أنّ ليس للرّب شيء في أفعالنا نحن البشر فنزهّو الذات الأعظم لا إله إلا هو من أخطائكم..
ثم يأتي بعضُ آخر ليتناول الجائحة من منظورها الصحّي.. فأخذنا نجد الكثير قد صوّروا المرض وكأنّه حان طي سجل هذا العالم أخيراً حيث أنّ البشرية على وشك الزوال.. فاتجهوا مباشرةً إلى إفراغ المحال وإلى التزوّد بكل ما يمكن من مؤن علّهم يستطيعوا العيش حين يسكن طوفان المرض الكبير.. ثمّ قفز الكثير في وجه هؤلاء لكي ينوّروهم بزعمهم عن بساطة الفيروس وأنّ فئةً محدودة هي التي ستكون في وجه المدفع وأنّ القرابين التي ستُقدّم لاستمرار البشرية هي أعداد منزورة من المجموع فليس هناك ما يدعو للهلع..
تأتي فئة أخرى لترى الجائحة من المنظور الاقتصادي.. أهو الانهيار؟ هل سيعود كلّ شيء كما كان؟ أليس هناك مخرج؟ هل حان الوقت للفتح؟ هل ستكون هناك موجة أخرى؟ هل بقي الكثير؟… أسئلة كثيرة تراودت الدول وزعماء العالم حول الخروج من هذا المأزق الذي يأكل الدول ببطئ تحت وطأة الركود الوشيك.. فخرجت التكهّنات تترا عن سقوط دول ونهوض شكل جديد للاقتصاد العالمي.. ثمّ أتى بطبيعة الحال من قال أنّها أزمة وستعود الأمور إلى سابق عهدها كأيّ أزمةٍ كانت..
ثم يأتي أصحاب نظريّة المؤامرة بطبيعة الحال.. الفيروس أتى من وايفاي الجيل الخامس.. بل كلّ الفايروسات أتت مع نهوض عصر الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية.. الفيروس مؤامرة كونية للإطاحة بالصين.. بل الفيروس مؤامرة صينية للإطاحة بالدول العظمى.. وغيره الكثير.. ثم يأتي من يسخّف النظريّات ويعيد الأمور إلى نصابها بزعمه أيضاً وأنّ الجميع متضرّر فكيف يكون هناك من يتآمر وهو من ضمن الخاسرين..
ثم يأتي العلمويّون أخيراً.. حان الوقت العلم.. الآن العلم يتكلم والجميع يسكت.. رأينا كيف سكت كلّ رجال الدين حينما جاءت الكارثة.. لم تنفعهم أديانهم الآن.. العلم يتكلم ويسكت الجميع.. العلم من سينقذكم.. ما إن يُكمِل هؤلاء كلامهم حتى يقفز عليهم من يقول بعلمكم أتت كلّ هذه الأمراض وبعلمكم سنظل في هذه الدائرة اللامتناهية من المصائب.. ثمّ ما بالكم وما بال علمكم لم ينقذنا حتى الآن فقد طال الآوان؟ يردّ أهل العلم مدّعين بأنه قد لن يطول الوقت فالذكاء الاصطناعي قد يسرّع كل عمليّات الاختبار ونخرج بلقاح في زمن قياسي تاريخيّاً.. وكلّ هذا بفضل العلم فأين أنتم وأين كنتم وإلى أين أنتم ذاهبون؟
وبعد برهة يهدأ الجميع بعد الانهاك من المشاحنات ثمّ يعمّ اليأس لطول الأمد.. تمرّ الأيام وعدّاد الأرقام لا يبدو أنّ له نيّة بالإنحناء قليلاً إلى النقصان.. حتى ملّ النّاس من المتابعة وانزوى كلُّ في زاويته وانشغل الجميع بنفسه..
وبعد امتداد الأمد أكثر.. يخرج كلّ شخصٍ قلمه.. جوّاله.. خاطره.. ليسأل.. من أنا؟ وماذا أريد؟ وإلى أين؟
استوعب الكثير فجأة بأنّه لا يعلم من “هو”.. أمعقول أن يعيش الانسان طوال حياته وهو لا يعرف من يكون؟ ما جوهره؟ ما الذي يريده حقّاً من هذه الحياة؟ هل كان يعيش من أجل أن يرضي المجتمع؟ أم قمع الوالدين يدفعه؟ أم هل كان يعيش حياة استهلاكية بحتة تحت تخدير الإعلام الجديد؟ هل وهل وهل؟.. كلّها أسئلة طفحت على السّطح لطول الأمد..
كما ترى عزيزي القارئ.. كلّما طال وقت انتظار الفرج وامتداد اللامعلوم عن وقت انحسار الجائحة تكشّفت طبقات أكثر فينا وجعلتنا وجهاً لوجه أمام كلّ ما كنّا نهرب منه.. سواء أنفسنا أم أنفس غيرنا..
بعدها نرى الجميع بدأ يدخل في حالة تسليم للأمر وتكيّف مع الوضع الجديد.. تلك هي روعة الانسان.. ما يلبث إلا أن يتأقلم مع أي وضع يقع فيه.. فرأينا الكثير من التحوّل على المستوى الشخصي في كثير من البشر.. فمن كان يكره القراءة نراه فجأة يغوص بين السطور.. من لم يخالط أهله من قبل قد صار يرى ويسمع.. منهم من انفصل ومنهم من تقارب ومنهم من هو في مكانك سر.. منهم من بدأ الرياضة حيث كان بالأمس ميؤوس من حاله.. والآخر يقفز من دورة تدريبية إلى أخرى بعد أن كان لا شيء.. وبطبيعة الحال.. كان هناك من لم يستطع الوقوف.. فخسر البعض ماله.. وبعضُ خسر أحبابه.. بل خسر البعض نفسه إما جسدياً بالموت أم معنويّاً بالضيّاع..
تسألني أين كنتُ أنا من كلّ هذا؟
بطبيعة الحال مررتُ بتجارب مشابهة للكثير ممن ذكرت وممن حولي.. ولكنّي وجدت نفسي أفعل شيئاً آخر دون أن أشعر وهو الذي دعاني لأن اكتب الآن هذه السطور.. وجدتني متفرّج..
بالطبع.. الكثير منّا كان يشعر بالملل وكان يسلّي نفسه بأن يتابع غيره على وسائل التواصل.. لكنّني كنت انظر بعين فاحصة.. أردت أن أرى ما هو الخيط المشترك بين كلّ ما أراه من هذه التجارب من حولي..
إن أمعنّا النظر.. سنجد أوّل ما يلوح لنا من بين كلّ ما تمّ ذكره من الفئات أنّ القاسم المشترك بينها هو المجهول.. الجميع أطبق في نهاية الأمر أنّنا لا نعلم.. لا نعلم شيء.. ليس فقط لا نعلم متى تنتهي الجائحة.. بل اكتشفنا أننا لا نعلم شيء.. غرور الجهل قد تبخّر حين أتى الفيروس على كلّ ما كنّا نظنّها إجابات كافية وشافية كي نعيش بتبجّح.. فقد أصاب الجميع بلا استثناءات..
ثمّ إذا أمعنّا النظر أكثر.. سنجد نوراً خافتاً يخرج من بين الظلمات يحكي شيئاً.. حين تكون البشريّة تحت وطأة التهديد المشترك فإنّها تتحد في نهاية المطاف.. أظنّ أنّه جزء تكشّف من هذه الملحمة الإنسانية..
ثمّ اكتشفنا أن الحياة أعقد ممّا كنّا نبسطه.. قبل الجائحة كان أي سؤال حتى وإن كان وجودياً يبدو الجواب عنه بديهي جدّاً.. حتى أتانا هذا الفيروس فوضعنا أمام خيارات صعبة جداً أرجعتنا إلى جانب التواضع رغماً عنّا..
وأخيراً.. اكتشفنا أنّ الانسان يستطيع العيش بصبر.. لكن لا يستطيع التعايش مع اللامعلوم.. الانسان عبارة عن مجموعة من التوقّعات.. حين أخرج من باب بيتي أنا أتوقع رؤية سيارتي أمامي.. حين أفتح صنبور الماء أتوقّع انسيابه.. حين آكل أتوقّع الشبع.. كلّ حياتنا عبارة عن توقّعات ونتائج لهذه التوقّعات.. فإن اختلّ التوقع اختلّ التوازن.. وهذا ما حصل.. اللامعلوم من مصير العالم مع الجائحة.. هل سأمرض؟ متى زوالها؟ متى اللقاح؟ هل سيعود الاقتصاد كما كان؟ هل سنعود كما كنّا؟ كلّها أسئلة لا تبدو إجاباتها بالواضحة فأدّت إلى اختلال التوازن السالف ذكره…
ولكن على الرغم من كلّ هذا.. نجد أنّه عندما انفرجت قليلاً في الأيام الماضية.. قد خرج الناس وملأوا الشوارع وكأنّ شيئاً لم يكن… بغض النظر عن سلبية أم إيجابية هذه النتيجة، يبدو أنّ هذا الجنس البشري ليس قادراً على التكيّف فقط.. بل إنّ لديه من المرونة العالية بأن يعود إلى سابق عهده كما كان من قبل وإن طال عليه الأمد..
إذاً.. تعلّمت من كورونا أنّ كلّ كسر قابل للجبر.. وكلّ حزن زائل.. وكلّ فرح لا يدوم.. وكلّ عالٍ يسقط.. وكلّ سقوط بعده وقوف.. وكلّ سيئ يتبعه الجيّد.. والعكس بالطّبع..
وفي النهاية كما ترون.. كلّ شيء قابل للتغيير.. إذاً من الذي يبقى من كلّ هذا؟!
حين يزول كلّ شيء.. تبقى أنت مع ذاتك.. فهل أنت في سلامٍ داخلي مع نفسك؟ هل أنت راضٍ عن نفسك ومتصالح حقّاً وحقيقةً معها؟ وكيف يكون ذاك التصالح؟ وكيف أحقّق الرضا النفسي إن لم يكن؟
الإجابة عندكم أكثر مما هي عندي.. الإجابة في قلب كلّ شخص.. إن أمعن النظر وأصغى جيّداً إلى صوت ذاته..
وبما أنّ الجائحة لم تنتهي بعد.. طوبى لمن صبر..
سؤال أخير لي ولكم.. حينما تصبح الجائحة من الماضي ونحكيها لأطفالنا في المستقبل.. ماذا تريد أن تقول عن دورك في هذه الأيام؟
حسين العوفي..
@HussainAloufi
التعليقات 1
سلطان الصانع
25/08/2020 في 5:26 ص[-7] رابط التعليق
كلام جميل.. كأنها تجربة عالمية لكل البشر.. وبالتجارب يعرف الانسان نفسه.