غادة العنزي  

من نعم الله على الإنسان أن ميزه بالعقل عن سائر مخلوقاته؛ وجعله يستخدم هذا العقل بقدرات إبداعيه أوصلته لاختراع التكنولوجيا كالحاسوب والهاتف وغيره من الوسائل الحديثة، ومما لا شك فيه أن التكنولوجيا أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية؛ ويصعب الاستغناء عنها، وبسبب هذا التطور التكنولوجي الهائل وسرعة مستجداتها أصبحت الدول أمام تحدي كبير لتطوير منظوماتها وتوسيع مجالاتها القانونية لكي تواكب هذا التقدم والتطور التكنولوجي، فأصبح من الصعب على المشرّع سرعة اللحاق بالتحديثات الجديدة للتكنولوجيا، وهذا ما جعل القانون اليوم منفتحًا على التخصصات الأخرى مثل التكنولوجيا والأحياء والرياضة وغيرها، والتي جعلت القانون يتوسع في اختصاصاته لكي يشمل التخصصات الأخرى مثل التجارة الإلكترونية والجرائم المعلوماتية والملكية الفكرية والذكاء الاصطناعي وغيرها.

فمن التقنيات الحديثة التي أصبحت ثورة قادمة على عالم التداول المالي وغيرها من المجالات الأخرى هي تقنية بلوك تشين Blockchain.

تعرف هذه التقنية بأنها دفتر أستاذ رقمي للمعاملات تقوم بإنتاج كتل متتالية تحتوي على عدد من المعلومات يتم تعدينها في كل معاملة جديدة والتي يتم تكرارها وتوزيعها عبر الشبكة الكاملة لأنظمة الكمبيوتر على بلوك تشين. تكون هذه الكتل مرئية للجميع بطريقة مشفرة ولا يمكن تغيير بياناتها أو التلاعب بها لأنها مؤكدة ومضمونة، فكل كتلة جديدة تكون مرتبطة بالكتلة السابقة. وتعتبر البلوك تشين أيضاً نوع من حفظ بيانات الأفراد لملكياتهم الخاصة كالأموال أو العقارات أو غيرها بطريقة لا مركزية بمعنى أن لها دور كبير بتسهيل أداء المعاملات المالية بين الطرفين والتي لا تحتاج لطرف ثالث بينهما ليكون أداة ضمان لكلا الطرفين. كما يمكن لكل طرف الاحتفاظ بنسخة خاصة لبياناته.

لذا، فإن وجود البلوك تشين يساعد على تعزيز وضمان العلاقات المالية بين الطرفين بشفافية وخصوصية بينهم. من أجل توضيح كيفية عمل هذه التقنية فلنفترض بوجود علاقة بيع وشراء عبر شبكة الإنترنت ويرغب المشتري بشراء منتج معين ومن ثم تحويل مبلغ المنتج للبائع حينها لا يحتاج الطرفين لوجود طرف ثالث كالبنك لإتمام العملية بينهم؛ فيتم ذلك عن طريق تقنية بلوك تشين. بمعنى آخر يوجد سجل مشترك مسجل عليه ما يملكه كل طرف في حسابه، وعند تحويل المبلغ عبر التطبيق الخاص بالتقنية ينظر لهذه المعاملة عبر الإنترنت ككتلة يتم توزيعها عبر شبكة البلوك تشين لكافة المشاركين الذين يملكون نسخة من السجل من أجل التحقق من العملية وأن المشتري بالفعل يتملك هذا المبلغ الذي يرغب بتحويلة للبائع. بمجرد التحقق من هذه المعاملة وبعد الرجوع للسجل يتم إضافة الكتلة إلى سلسلة جديدة ومرتبطة بما قبلها ولا يمكن تغييرها أو التلاعب بها.

يفهم مما سبق أن بلوك تشين تسرّع وتحسن العلاقات بين الطرفين وإلغاء الوساطة بينهما مما يعزز من حماية بياناتهما خصوصياتهما بشكل أكبر. تكمن أهمية البلوك تشين في التعاملات التجارية الدولية التي غالبًا ما تكون أصعب من التجارة الداخلية بين الأفراد بسبب القوانين المختلفة بين الدول وصعوبة معرفة شخصية كل طرف. فالتجارة الدولية تقوم بمبدأ الثقة المتبادلة بين الأطراف وتكوين علاقات هادفة ومفيدة بينهم.

من أهم ما يجب تواجده في العلاقة التجارية الدولية هو ضمان تبادل المنافع بين الطرفين؛ كضمان توصيل البضائع للمشتري ووصول المبلغ المستحق للبائع. من هنا ظهرت الحاجة لخطاب الاعتماد (letter of credit) الذي يصدر من البنك ويضمن به استلام مدفوعات المشتري للبائع بعد ضمان توصيل البضائع في الوقت المحدد وبالمبلغ الصحيح عند عدم مقدرة المشتري في الدفع؛  حينها يُطلب من البنك أن يقوم بتغطية المبلغ الكامل أو المتبقي للشراء. يعني ذلك احتمالية وجود مشاكل بسبب تأخر عمليات الدفع أو أي مشاكل أخرى تكون من قبل البنك.

يكمن دور البلوك تشين في الحصول على خطاب الاعتماد عبر إتباع مراحل مختلفة بدءا من فتح الائتمان على البنك وإرساله إلى المستفيد حتى سداد المبلغ، فهي تسهل إكمال المعاملات التي تستغرق وقتًا طويلا في اتمامها، كشحن البضائع عبر الحدود.

فتقنية البلوك تشين سيكون لها دور فعال كبير في تسهيل العلاقة المالية بين البائع والمشتري، فعند دخول العميل الجديد على البنك فلا يحتاج البنك لاستغراق الكثير من الوقت في عملية تقديم الائتمان، حيث يتم إرسال تقارير الائتمان واستلامها من خلال بلوك تشين حتى يتم التحقق من صحة بيانات هذه التقارير.

وفي التجارة الدولية تُطلب العديد من المستندات لإتمام المعاملات التعاقدية، مثل الوثائق المطلوبة لتمويل التجارة كخطاب الاعتماد والوثائق المتعلقة بنقل البضائع مثل بوليصة (سياسة)  الشحن وغيرها من وثائق الإجراءات عبر الحدود. تستغرق هذه المستندات وقتًا طويلاً لتحضيرها وإتمامها في الوقت المحدد، وقد تعيق سرعة وصول البضائع للوجهة. هنا تظهر الاستفادة من تقنية البلوك تشين وإمكانيات التكنولوجيا في التعاملات التجارية الدولية من خلال تحسين أداء عمليات التمويل التقليدية كخطاب الاعتماد في البنوك، وسرعة تحضيرها في وقت قصير.

ولكن من المؤسف أنه ما زالت تقنية بلوك تشين تقنية حديثة ولم تجتاح جميع البنوك العالمية وهذا يعني أن هناك أعداد قلة من البنوك تستند على تقنية البلوك تشين، ومن المتوقع بأن العديد من البنوك ستبدأ باستخدام هذه التقنية لتزيد ثقة الأطراف في التعاملات المالية ولتعزيز كفاءة العمليات التجارية. كما أوضح بنك اتش اس بي سي HSBC بأنه قام بتطوير آليات لاستخدام تقنية بلوك تشين لتبسيط العمليات المالية ويعد هذا البنك من أهم البنوك العالمية التي بدأت باستخدام بلوك تشين. فبحسب قناة CNBC أصدر بنك HSBC خطابات الاعتماد (letter of credit) إلى بنك آخر لشركة الأغذية والزراعة الأمريكية كارجيل، تضمنت شحن كميات كبيرة من فول الصويا من الأرجنتين إلى ماليزيا بصفقات عالية، وكان ذلك لضمان استلام البائع الدفع. في العادة تستغرق هذه العملية وقتا طويلا والعديد من السجلات الرقمية والمتطلبات بين مختلف الجهات المعينة، ولكنها لم تأخذ الكثير من الوقت باستخدام تقنية بلوك تشين.

إن تقنية بلوك تشين جعلت البنوك العالمية في تحدي كبير لمواكبة الابتكارات التكنولوجية الحديثة والتي زادت من تنافس الشركات للاستناد عليها وتطويرها في مجالاتها. إن دخول هذه التقنية على البنوك ستزيد من تبسيط التعاملات التجارية بين عملائها وزيادة الثقة المتبادلة بينهم. ومما لا شك فيه أن بلوك تشين تساعد على كشف عمليات الاحتيال والوقاية منها وهذا ما يزيد مصداقية الأطراف، والغرض منها بأن تسمح من مشاركة البيانات والتعاملات الرقمية بطريقة آمنه وشفافة ودون الحاجة لوجود طرف ثالث، ففي التعاملات التجارية الدولية بين الشركات والأفراد حول العالم ستتمكن من جعل المعاملات أكثر كفاءةً وسرعةً وأمنًا، ويقلل من الخوف بالدخول في المعاملات التجارية الدولية بسبب الاختلافات بين الدول والأشخاص.

ختامًا، نشير إلى أنه لا بد من تطوير هذه التقنية في المراكز الحكومية والدولية وتوحيد التكافل الدولي لتسخير التقنية بأن تكون حلا لمشاكل ومسائل قانونية أخرى وتقليل المخاوف بين الأفراد. إن توحيد الدول بالاعتماد على البلوك تشين سيزيد من توسعها حول العالم بشكل شفاف وآمن مما سيزيد النمو الاقتصادي. من الأفضل زيادة الإثراء المعرفي حول توسع هذه التقنية وآلية عملها في التجارة الدولية وأهمية وجودها في البنوك العالمية، فلا يعرف إلى أي مدى ستتطور بلوك تشين وتجتاح التخصصات الأخرى.