“بيان من الديوان الملكي، ببالغ الأسى والحزن، ينعى صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود وكافة أفراد الأسرة والأمة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود …”
“إنا لله وإنا إليه راجعون…”
في الشهر الأول من عام 2015، أركب القطار متّجهاً إلى جامعتي.. وكعادته تجده في هذا الوقت من الصباح الباكر مكتظ بالرّكاب المتّجهين إلى أعمالهم.. ولكن الهدوء يعمّ المقطورة رغم الازدحام.. أهي غصّة الخبر قد أصابتني بالصّمم؟ فبعد كلّ شيء، لولا من رحل لم أكن من أنا الآن ولم أكن متّجهاً للجامعة كطالب مبتعث في مدينة بوسطن.. أشعر وكأنّني قد فقدت والدي.. والد المبتعثين..
.
.
.
.
مع وفاة الملك عبدالله رحمة الله عليه وهبوط أسعار النفط بدت المملكة وكأنّها على مشارف مصير كان الجميع يجهل معالمه.. لم نكن نعلم بأنّ التغيير سيكون عميق الأثر وأنّنا مقبلون على مرحلة لا عودة منها.. لم نكن نعلم بأنّ هذا التغيير سيكون سريعاً ومهولاً.. سريعاً لتستوعبه العقول حتى.. كنت وكنّا نعيش في زمن أبسط بحياة أبطأ وبكسل مبرّر في نظرنا..
يتسلّم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم بسلاسة كما اعتدنا في هذه البلاد الكريمة..
تخرّجت وعدت لبلادي بعد أن تمّ إلغاء ترقية البعثة لمرحلة الماجستير.. لم أحزن كثيراً إذ قلتُ أنّه ربما حان الوقت لكي أحصل على وظيفة على أيّة حال..
وبعدها بمدة ليست ببعيدة.. حصلت إعادة هيكلة للكثير من قطاعات الدولة وأُدخِلت الدماء الشابة في أماكن اتخاذ القرار واستبشرنا بخير بأنّنا على عهدٍ جديد من العطاء..
ولكن.. لم نلبث حتى سمعنا أنّ أرامكو قد تُعرض للبيع.. الفواتير سترتفع.. البنزين سيرتفع.. هناك ضرائب قادمة بالطريق.. الوظائف لا تزال شحيحة..
بدأتُ أشعر وكأنّنا ندخل في فوضى.. لم أعد أعلم ما هو الصحيح وما هو الخاطئ.. جزءٌ منّي خائف على مستقبلي مع شح الوظائف.. وجزء منّي مستنكر.. لماذا نبيع أرامكو؟! لماذا نبيع خير البلد؟! إنّها مصدر الدّخل الوحيد لدينا! كيف سنعيش بعدها؟! ولماذا هناك ضرائب ستصدر وارتفاع لكلّ شيء؟!
في الرّبع الأول من عام 2016 خرج الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع تركي الدّخيل وتحدّث فيها عن رؤية للمملكة تمتد أهدافها إلى عام 2030.. شاهدتُ المقابلة وقد تفاجأت ُ كثيراً أنّ هناك نمط جديد من الحديث! بدأتُ أسمع أرقاماً وأهدافاً نوعيّة قادمة في الطريق وتحوّل جذري في كثير من مفاصل الحياة في بلادنا! لا أخفيكم سرّاً شعرتُ بالإحراج من نفسي وأنا أستمع للمقابلة.. فقد بدا الرّجل واثقاً ومتأكّداً من كلّ وعدٍ وكلّ كلمة تخرج من فيه.. وقد تحرّك شيء عميق بداخلي عندما سمعته يتكلّم عن أرامكو بأنّها أصبحت كالدستور عندنا حتى أصبحت لدينا “حالة إدمان نفطية” وأنّ هذا ليس بالشيء الجيّد لا على مستوى الاقتصاد ولا على مستوى تقدّمنا.. ثمّ تحدّث عن الإصلاحات الاقتصادية وأنّها ضرورية للقيام من جديد وبشكل أقوى.. كان لتلك المقابلة بداية التأثير على عقلي وقلبي ولكنّ حالة الإدمان النفطية كما وصفها سموّه وحالة التخدير من مواجهة الواقع الجديد وأنّنا في زمن مختلف كانت طاغية فلم أستيقظ بعد.. لا زلتُ متمسّك بالقديم.. ولا زلتُ أهرب من محمد بن سلمان.. بمعنى لا زلتُ أهرب من التجديد.. من الرؤية.. من المستقبل..
مرّت الأيّام وكانت الأمور هادئة على السّطح.. لكنّ ما كان يحدث حقيقةً في جميع أجهزة الدولة هو حراك مستمر وكانت هناك جنود خفيّة في كلّ قطاع تعمل ليل نهار دون علمنا كي تنهض بالبلد بشكلٍ مختلف تماماً عن الذي عهدناه.. دخلنا عام 2017 ثمّ أخذت الرؤية تتبلور أكثر وتتضح معالمها لدينا أكثر ثمّ انهالت علينا المفاجآت تترا.. القديّة.. أمالا.. حساب المواطن.. قيادة المرأة.. برنامج جودة الحياة.. هيئة الترفيه.. السينما.. وزارة الثقافة.. إلخ..
يخرج الأمير محمد من جديد مع داوود الشريان في مقابلة ويحدّثنا عن استمرار التغيير وأنّه لا مكان لفاسد بيننا وفي قابل الأيّام سنشنّ حرباً على الفساد.. وسنحافظ على كرامة المواطن ورفاهيته.. بل سنسعى إلى جلب الترفيه إلى الدّاخل.. وما زلنا على وعدنا بأنّ برامج الرؤية ستبتلع المشاكل القديمة فضلاً عن تحقيق طموحاتنا..
ما الذي يحصل؟! أشعر وكأنّ العالم أصبح سريعاً فجأة! بدأت البرامج تنهال علينا من كلّ حدبٍ وصوب حتى أن بحثي لم يكن يتوقّف عن تفاصيل كلّ برنامج.. إذاً هو تحوّل حقيقي! إذاً هو التغيير الكبير! بل هو النّهوض الشامل.. لم يبق مجال من مجالات حياتنا إلا نال نصيبه من القرارات المتجدّدة..
في النهاية.. أدركتها.. أدركت لماذا كنتُ أهرب من محمد بن سلمان.. كنت أهرب منه لأنّه أراد تحطيم الأصنام التي وجدتنا مع الأجيال السابقة عاكفين عليها.. كنت أهرب منه لأنّه يقول لي يجب أن تتحمّل نتيجة أفعالك.. كنت أهرب منه لأنه أراد منّي أن أعمل بجد كي يكون لعيشي معنى.. كنت أهرب منه لأنه أرادني أن أكون مسؤولاً عن تصرفاتي.. والأهمّ من هذا كلّه.. كنت أهرب منه لأني كنت خائفاً من التغيير.. كثير منّا يدّعي حب التغيير وأنا منهم.. لكن حين يأتي التغيير الحقيقي نخاف.. فكذلك كنت.. كنت أهرب منه.. لأنه كان أشجع منّي في التغيير.. كان طموحه أعلى من أن أستوعبه في لحظة.. لهذا أخذتُ كلّ وقتي في الاستيعاب..
عشنا فترة كان لابد لنا أن نعيشها.. فكلّ ملك من ملوك هذه البلاد الكريمة كان في محلّه الصحيح زماناً ومكاناً وكأنّ البلاد مسخّرة من رب العباد يضع كلُّ في موضعه وفي وقته المناسب.. فلما أصبح المكان يتغيّر كثيراً.. والزمان يتسارع بشكل مهول.. تغيرت الحياة.. العقول ليست هي ذاتها.. المجتمع أصبح أكثر تعقيداً ديموغرافياً وثقافياً.. فكان لابدّ من وجود شخص يستطيع أن يواكب تسارع هذا الزمان وتغير المكان.. فجاء ولي العهد وكأن لسان حاله يقول:
نحن هنا.. وسنصبح هناك “مشيراً للأمام”.. لن نكون في الوراء.. نحن هنا لنقود.. لا لنركد.. ولا لنسقط..
.
.
.
في الرّبع الأخير من عام 2017 حصل حدثان ضخمان على الصعيد الشخصي وعلى صعيد البلد.. لقد تمّ قبولي بالبعثة مرة أخرى لدراسة الماجستير.. ثمّ حصل اللقاء الجوهري للأمير محمّد بن سلمان عن مشروع نيوم المستقبل..
لقد شعرتُ وكأنّني أُبعث من الموت.. كنت أرى برامج الرؤية وأنا سعيد وحزين في نفس الوقت.. سعيد بما يحدث من نهوض البلاد وحزين على بطالتي.. كنتُ أرى كلّ شيء يجري بسرعة وأنا في مكاني.. أردتُ أن يكون لي دور في دفع العجلة.. أردتُ أن أشارك الجميع في خدمة الوطن.. حتى قُبلتُ لإكمال دراستي.. شعرتُ بالرضا.. سعدتُ كثيراً بإيمان وطني فيّ من جديد.. سعدتُ كلّ السعادة عند ذهابي إلى أمريكا مرّة أخرى في الربع الأول من 2018 ووصول الأمير محمد بن سلمان إلى أمريكا أيضاً بعد يومين من وصولي وصرف 2000 دولار لكل مبتعث!! كان ذلك بمثابة فأل خير لي.. وكذلك كان.. استمرّت البلد بالعطاء والنهوض.. وبدا الأمير متألّقاً في كلّ محفل يمثّل وطننا فيه.. غمرنا الفخر وبات اسمنا بالصعود في كلّ المجالات.. ثمّ جاء دافوس الصحراء في الربع الأخير من عام 2018 ليؤكّد ما وصلنا إليه في هذا الظرف الزمني القصير..
أخذت على المستوى الشخصي أبحث أنا وغيري عن معاني كالفرق بين الرؤية والهدف.. كيف أسرّع نجاحي؟ كيف أتغيّر؟ كيف أنهض؟ كيف أتميّز؟ لقد غمرتنا الرّغبة بالتغيير الشخصي أيضاً..
ثم بلورتُ ما تعلّمته في جملة.. أكثر ما تعلّمته من محمّد بن سلمان هو أن أُخرِجَ الفرص من كبد الصعاب..
كلّه إلهاماً من تلك الرؤية التي أسأل الله أن يبارك للوطن بها.. وكذلك إلهاماً من صاحب الرؤية وكفاءته في الإنجاز.. فما كان هناك من بد الا اتّباع حذوه والانطلاق معه وخلفه من أجلنا.. من أجل الوطن.. وكما اتّضح لاحقاً في جائحة كورونا.. من أجل الإنسانية جمعاء..
بعد خمس سنوات.. يتغير هذا البلد الكريم ويصبح منارةً في قلب العالم.. أصبحت الدول تنتظر ما نقول.. أصبح لكلمتنا قوة.. أصبحنا ذو شأنٍ أكبر في العالم.. كسرنا الصورة النمطية.. وهذا كلّه بدأ من رؤية.. رؤية محمد بن سلمان.. رؤية السعوديون.. رؤية الوطن.. مجتمع حيوي.. وطن طموح.. اقتصاد مزدهر..
سارعي يا بلادي.. سارعي للمجد والعلياء.. وتقدّم يا أمير.. نحن خلفك ومعك.. أعدت لنا الأمل.. شكراً لك..
شكراً على كلّ شيء..
.
.
.
حسين العوفي