أعقد مما ظننت
شاركني صديقٌ لي عازف للبيانو قائمة الموسيقى الكلاسيكية التي يستمع إليها.. فقررتُ أن أستمع إليها أثناء كتابتي لمقالي هذا كعادتي في كل مرة اكتب فيها مقالاً أو أدقق روايتي الجديدة..
ولكن الخاطرة التي مررتُ بها أثناء سماعي للموسيقى الأولى جعلتني أغيّر موضوع مقالي إلى هذا المقال..
ما حصل هو أنّ الموسيقى الأولى كانت تسحبني إلى مشاعر مختلفة لم أعتدها.. شهقة خفيفة غير مسموعة مع خفقات قلب سريعة لأقل من ثانية.. ثم شعور بالسعادة والحنين.. حتى سحبتني تلك الموسيقى إلى طفولتي.. لم أعلم لماذا حصل ذلك حينها، خصوصاً أن الموسيقى لم تكن للأطفال، بل كانت من الموسيقى الكلاسيكية القديمة.. لقد كان شعوراً مشتّتاً لتفكيري فتوقّفت عن الكتابة وبدأت أصغو بقلبي إلى أين ستقودني تلك الموسيقى.. حاولتُ أن أغوص في أعماقي بعيداً كي أعرف مصدر تلك المشاعر المتفاعلة مع الموسيقى لكني لم أفلح في ذلك حتى استسلمت وبدأت أقرأ التعليقات أسفل الفيديو علّي أجد من يشاركني ذلك الشعور ويعرف السبب..
وهنا كانت المفاجأة.. لم أتمالك نفسي من الضحك حين رأيتُ التعليقات ممتلئة بالأشخاص الذين ذكّروني بالمرة الأولى التي استمعت فيها لهذه الموسيقى.. لقد كانت موجودة في أحد أفلام المسلسل الشهير الذي تابعه الكثير منا في طفولتهم (أبطال الديجتال)..
وهنا زفرتُ زفرة ارتياح حين علمتُ سبب مشاعر الحنين الغريبة التي أصابتني..
ولكنّ تفكيري لم يتوقّف عند هذا الحد..
أعادني ذلك الموقف إلى موقف آخر مشابه حين كنتُ أعمل على بحث لجامعتي في يوم من أيام الحجر الصحي وكان خلفي التلفاز يعرض فيلماً على قناة MBC 2، ولكن لم يكن تركيزي منصبّاً عليه..
حتى بدأت أشعرُ فجأةً بالحزن الشديد..
- وش فيني كذا فجأة ضاق صدري؟
تساءلتُ عن سبب ذلك الحزن لبرهة حتى انقاد وعيي إلى تلك موسيقى الفيلم التي خرجت من التلفاز من خلفي لتهبط على أذناي فتذكّرني بأنها كان نغمة اتصال هاتف صديقي المتوفى..
وهكذا.. جعلني الموقف الأول أتذكر الموقف الثاني ثم دخلتُ في سلسلة من الذكريات المشابهة لكلا الموقفين حتى رأيتُ العامل المشترك بين تلك المواقف جميعها..
تأثير عقلي الباطن (اللاوعي) أعقد مما ظننت..
لطالما علمنا أن اللاوعي يحفظ الكثير من الذكريات والكثير من التجارب والكثير من الدوافع التي قد تغيب عنّا وقد تكون حافزاً لكثير من المواقف التي تصدر منّا..
ولكني لم أعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل تأثير الحوافز الداخلية والخارجية المرتبطة بالعقل الباطن على أفعالنا..
في حالتي هذه.. أصابني الذهول إلى أي مدى وصل تأثير تلك الحوافز الخارجية (الموسيقتان وغيرهما) على عقلي الباطني وإثارة مشاعر مختلفة في قلبي دون وعيي الكامل عن سببها..
شعرتُ بالرّهبة والضعف قليلاً..
هل أملك الإرادة المطلقة على مشاعري؟
إن كانت موسيقى تصيبني بمشاعر لا أستطيع أن أفهم مصدرها إلا بصعوبة، هل أفعالي غير معروفة الدوافع كذلك؟
هل حبّي للكتابة نابع عن دوافع لا أعلمها أيضاً؟ دوافع جاءت من طفولتي مثلاً؟ مديح من أستاذ مادة التعبير لكتاباتي الذي انغرس في عقلي الباطن مثلاً؟ ثم قادني ذلك المديح لتبنّي الكتابة كهواية حين كبرت؟ مثلاً؟
هل الانسان لديه الحرية الكاملة فعلاً على قراراته وأفعاله إن كان محكوماً بدوافع قد لا يعلم السبب الحقيقي من ورائها؟
حين نحب.. حين نكره.. حين نصلح.. حين نفسد.. هل كلّها بأيدينا؟ باختياراتنا المحضة؟
من الواضح من الوهلة الأولى أنّ الإجابة لا.. ليس لدينا الحرّية الكاملة على أفعالنا..
(وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا)
إذاً فالإنسان ضعيف.. ضعيفٌ حتى في اختياراته.. ضعيف في معرفة دوافع أفعاله الحقيقية..
ولكن أيضاً..
أليس (الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ)؟
أليس يكون الانسان واعياً حين يحسد أو يحقد أو يكره؟
إذاً ما هي؟ هل نحن مسيّرون أم مخيّرون؟
لا أدعي شخصيّاً معرفة الإجابة المطلقة على هذا السؤال الكبير.. لكنّي أعلم الآن أنّ المسألة معقدة بتعقيد الانسان.. وأعلم أنّ هناك مواقف تختلط فيها الأوراق ولا يعلم الانسان فيها حقيقة دوافعه.. وبهذا أعلم أنه لا يمكنني الحكم المطلق على دافع واحد وترك بقية الدوافع.. يجب أن أنظر إلى كل الزوايا بعين الاعتبار..
ومع ذلك سأخطئ وسنخطئ جميعنا في تقدير الحكم المطلق على الأمور لأننا لسنا آلهة..
وحده الله لا إله إلا هو يعلم..
بالطبع يعلم بكلّ دوافعنا ويراها ويزنها بعدله وحكمته.. ورحمته..
ألهذا هناك (موازين) للعدل يوم القيامة وليست ميزاناً واحداً؟
حسناً.. ما نعلمه من ديننا هو أنّنا مسؤولين عن أفعالنا وأنّنا محاسبين على أخطائنا التي ندركها..
أما ما لا ندركه.. فقد فتح لنا ربنا باب إنقاذ من ذلك..
(رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ)
آمين آمين آمين..
.
.
.
حسين العوفي
@HussainAloufi
مصادر
الموسيقى الأولى
Bolero by Maurice Ravel
https://www.youtube.com/watch?v=r30D3SW4OVw&ab_channel=TheWickedNorthTheWickedNorth
الموسيقى الثانية
La Bohéme – from Demolition Movie