لنتوقّف قليلاً
قبل أن يصبح العالم سريعاً، كانت المواقف والأخبار والأشياء لها معنىً وطعماً مختلفاً.. ولأكون دقيقاً، كانت الأحداث التي تقع علينا ومن حولنا لها وقعاً أعمق ومدى تأثيرها يدوم زمناً أطول..
لنأخذ حسين نموذجاً.. قبل عشر سنواتٍ تقريباً، تخرّج حسين من المدرسة الثانوية. كان ذلك حدثاً كبيراً ومذهلاً لم ينفك حسين عن التعبير عن سعادته من خواطر وحديث عن المستقبل والعودة مراراً وتكراراً إلى صوره في هاتفه المحمول “نوكيا آنذاك” ويستذكر ما مرّ به من أيام جميلة وعصيبة في تلك الفترة من عمره.. كانت البهجة واضحةً من تلك العيون اللامعة.. سعادة صافية.. لم يكن يشوبها أي شائبة..
تمرّ الأيام والأسابيع والشهور كذلك ولا يزال حسين بين الحين والآخر يعود إلى تلك الذاكرة التي كانت تبدو أنها لن يملأ رفوفها الغبار قريباً..
وبعد ست سنين..
يتخرّج حسين من أمريكا بشهادة البكالوريوس..
يشعر بالسّعادة الغامرة في حفل التخرّج من جديد..
ولكن يخالطها بعض التوتر، فهو لا يريد أن تفلت أيّ لحظة من كاميرة هاتفه الذكي..
في اليوم التالي..
يتصفّح حسين ردود الفعل على ذلك الحدث الكبير في نظره..
الجميع يبارك له ويتمنّون له وظيفة المستقبل..
يعود حسين إلى بلده فيتفاجأ بحفلِ تخرّجٍ آخر صغير أقامته عائلته فرحاً بتخرّجه وعودته أخيراً..
يشعر حسين بفرحٍ عظيم..
ولكن سرعان ما يرفع الجميع هواتفهم كي يوثّقوا تلك اللحظة..
وبعد أن يأكل الجميع من كعكة التخرّج بدقائق، ينشغل الجميع بالرّد على متابعيهم في هواتفهم..
وبعد أسبوع..
يتصفّح حسين هاتفه الذكي ليستذكر ما حصل في فترة البكالوريوس كما كان يفعل بعد تخرّجه من الثانوية..
لا شيء..
غادرت نشوة الفرح قلبه..
يشعر حسين بأنّ البعثة أصبحت ماضياً الآن على الرّغم من مرور أسبوع فقط على تخرّجه..
يقوم فيبحث عن شيء آخر لتوثيقه..
.
.
بعد سنة..
يحصل حسين على بعثة أخرى..
يقوم بتوثيق قبوله في هاتفه الذكي..
يقلّب ردود السعادة من محبيه..
يشعر بقليل من الفرح..
ولكن عليه ألا يطيل التأمّل في هذا الموقف لكي لا يتأخّر عن تصوير رحلته من جديد..
.
.
بعد سنتين..
يتخرّج حسين من الماجستير..
يوثّق صورة الشهادة في وسائل التواصل..
تصله التبريكات من محبّيه..
يبدأ بالرّد على الجميع..
ثمّ يسحب الشاشة بإصبعه إلى الأسفل بحثاً عن خبرٍ أحدث في الأعلى..
.
.
بعد قليل..
يتوقّف حسين قليلاً..
يعود إلى جميع اللحظات الجميلة في حياته..
يقلّب الصور والفيديوات..
لا يشعر حسين بشيء..
– ما الذي حصل لي؟ لماذا أصبحتُ أواجه صعوبة في الشعور بالسعادة والامتنان لكلّ إنجازاتي؟
– لم أكن كذلك قبل عشر سنوات.. ما الذي حصل لي؟
لم يدم ذلك التساؤل كثيراً لأنّ حسين “مشغول”..
يعود من عمله الذي حصل عليه بعد برهةٍ قصيرة من تخرّجه..
يجلس مع أهله قليلاً..
ثم ينشغل الجميع بهواتفهم بعد ما أصبحت هي العادة..
لا يجب أن يتأخّروا عن رؤية ما هو جديد..
.
.
لقد أصبح العالم سريعاً..
لا أحد يريد التوقّف..
إن توقّفنا الآن لنتأمّل حياتنا، قد يفوتنا شيء..
أصبح شعوراً مُحبِطاً..
أن يفوتنا شيء..
لذلك.. لا نريد أن نتوقّف قليلاً..
.
.
.
حسين العوفي
@HussainAloufi